فصل: سنة خمس وستين وخمسمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر وقعة السودان بمصر:

في هذه السنة في أوائل ذي القعدة قتل مؤتمن الخلافة، وهو خصي كان بقصر العاضد، إليه الحكم فيه، والتقدم على جميع من يحويه، فاتفق هو وجماعة من المصريين على مكاتبة الفرنج واستدعائهم إلى البلاد، والتقوي بهم على صلاح الدين ومن معه، وسيروا الكتب مع إنسان يثقون به، وأقاموا ينتظرون جوابه، وسار ذلك القاصد إلى البئر البيضاء، فلقيه إنسان تركماني، فرأى معه نعلين جديدين، فأخذهما منه وقال في نفسه: لو كانا مما يلبسه هذا الرجل لكانا خلقين، فإنه رث الهيئة، وارتاب به وبهما، فأتي بهما صلاح الدين ففتقهما، فرأى الكتاب فيهما، فقرأه وسكت عليه.
وكان مقصود مؤتمن الخلافة أن يتحرك الفرنج إلى الديار المصرية، فإذا وصلوا إليها خرج صلاح الدين في العساكر إلى قتالهم، فيثور مؤتمن الخلافة بمن معه من المصريين على مخلفيهم فيقتلونهم، ثم يخرجون بأجمعهم يتبعون صلاح الدين، فيأتونه من وراء ظهره، والفرنج من بين يديه، فلا يبق لهم باقية.فلما قرأ الكتاب سأل عن كاتبه فقيل: رجل يهودي، فأحضر، فأمر بضربه تقريره، فابتدأ وأسلم وأخبره الخبر، وأخفى صلاح الدين الحال.
واستشعر مؤتمن الخلافة فلازم القصر ولم يخرج منه خوفاً، وإذا خرج لم يبعد صلاح الدين لا يظهر له شيئاً من الطلب، لئلا ينكر الحال ذلك، فلما طال الأمر خرج من القصر إلى قرية له تعرف بالحرقانية للتنزه، فلما علم به صلاح الدين أرسل إليه جماعة، فأخذوه وقتلوه وأتوه برأسه، وعزل جميع الخدم الذين يتولون أمر الخلافة واستعمل على الجميع بهاء الدين قراقوش، وهو خصي أبيض، وكان لا يجري في القصر صغير ولا كبير إلا بأمره وحكمه، فغضب السودان الذين بمصر لقتل مؤتمن الخلافة حمية، ولنه كان يتعصب لهم، فحشدوا وأجمعوا، فزادت عدتهم على خمسين ألفاً، وقصدوا حرب الأجناد الصلاحية، فاجتمع العسكر أيضاً وقاتلوهم بين القصرين.
وكثر القتل في الفريقين، فأرسل صلاح الدين إلى محلتهم المعروفة بالمنصورة، فأحرقها على أموالهم وأولادهم وحرمهم، فلما أتاهم الخبر بذلك ولوا منهزمين، فركبهم السيف، وأخذت عليهم أفواه السكك فطلبوا الأمان بعد أن كثر فيهم القتل، فاجيبوا إلى ذلك، فأخرجوا من مصر إلى الجيزة، فعبر إليهم وزير الدولة توارنشاه أخو صلاح الدين الأكبر في طائفة من العسكر، فأبادهم بالسيف، ولم يبق منهم إلا القليل الشريد، وكفى الله تعالى شرهم، والله أعلم.

.ذكر ملك شملة فارس وإخراجه عنها:

في هذه السنة ملك شملة صاحب خوزستان بلاد فارس، وأخرج عنها، وسبب ذلك أن زنكي بن دكلا صاحبها أساء السيرة مع عسكره فأرسلوا إلى شملة بخوزستان وحسنوا له قصد فارس، فجمع عساكره وتجهز وسار إليها، فخرج إليه زنكي بن دكلا، ووقعت بينهم حرب خامر فيها أصحاب زنكي عليه، فانهزم في شرزمة من عسكره، ونجا بنفسه، وقصد الأكراد الشوانكار والتجأ إليهم، فاجاره صاحبها، وأحسن ضيافته.
ونزل شملة ببلاد فارس فملكها، فأساء السيرة إلى أهلها، ونهب ابن أخيه ابن سنكا البلاد فتغيرت بواطن أهلها عليه، واجتمع إلى زنكي بعض العسكر الذين خامروا عليه، ولما رأوا من سوء سيرة شملة فيهم، فكثر جمعه مع الأكراد الشوانكار ونزل بهم إلى البلاد وكاتب عسكره ووعدهم الإحسان فأقبلوا إليه فقصد شملة واستعاد زنكي بلاده ورجع إلى ملكه وعاد شملة إلى بلاده خوزستان.

.ذكر ملك إيلدكز الري:

في هذه السنة ملك إيلدكز مدينة الري والبلاد التي كانت بيد إينانج.
وسبب ذلك أن إيلدكز كان قد استقر الأمر بينه وبين إينانج على مال يؤديه إلى إيلدكز، فمنعه سنتين، فأرسل إيلدكز يطلب المال فاعتذر بكثرة حاشيته وغلمانه، فتجهز إيلدكز وطلب الري، فالتقاه إينانج وحاربه حرباً عظيمة، فانهزم إينانج ومضى منهزماً، فتحصن بقلعة طبرق، فحصره إيلدكز فيها وأرسل سراً جماعة من مماليكه، فأطمعهم في الإقطاعات والأموال والإحسان العظيم ليقتلوا إينانج، فقتلوه، وكانوا جماعة كثيرة، وسلموا البلد إلى إيلدكز، فرتب فيه عمر بن علي ياغ، وعاد إلى همذان، ولم يف للغلمان الذين قتلوا إينانج وسلموا البلد إليه بما وعدهم وقال: مثل هؤلاء ينبغي أن لا يستخدم؛ وأبعدهم عنه، فتفرقوا في البلاد، فسار بعضهم، وهو الذي تولى قتله، إلى خوارزم شاه، فصلبه خوارزم شاه نكالاً بما فعل بصاحبه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة رؤي في دار الخليفة المستنجد بالله رجل غريب في الطريق الذي يركب فيه وفي زنده سكين صغيرة، وفي يده سكين أخرى كبيرة، فأخذوه وقرروه، فقال: أنا من حلب. فحبس وعوقب البواب، ولم يعلم من أين دخل.
وفيها قبض ابن البلدي وزير الخليفة على الحسين بن محمد المعروف بابن السيبي، وعلى أخيه الأصغر، وكانا ابني عمة عضد الدين أستاذ الدار، وكان الأصغر عامل البيمارستان، فقطعت يده ورجله، قيل كان عنده صنج زائدة يقبض بها وتحمل إلى الديوان بالصنج الصحيحة؛ وقيل غير ذلك، وحمل إلى البيمارستان فمات فيه. وكان شاعراً، فمن شعره وهو في الحبس هذه الأبيات:
سلام على أهلي وصحبي وجلاسي ** ومن في فؤادي ذكرهم راسب راسي

أعالج فيكم كل هم ولا أرى ** لداء همومي غير رؤيتكم آسي

لقد أبدت الأيام لي كل شدة ** تشيب لها الأكباد فضلاً عن الراسي

فيا ابنة عبد الله صبراً على الذي ** لقيت فهذا الحكم من مالك الناس

فلو أبصرت عيناك ذلي بكيت لي ** بدمع سوي بالمدامع رجاس

أقول لقلبي والهموم تنوشه ** وقد حدثته النفس بالضر وإلياس

فلو هم طيف من خيال يزوركم ** لمانعه دون المغالق حراس

وما حذري إلا على النفس لا على ** سواها لأني حلف فقر وإفلاس

وفيها توفي المعمر ابن عبد الواحد بن رجار أبو أحمد الأصفهاني الحافظ، يروي عن أصحاب أبي نعيم، وكان موته بالبداية ذاهباً إلى الحج في ذي القعدة.
وفي رجب منها توفي الشيخ ابو محمد الفارقي المتكلم على الناس، وكان أحد الزهاد، له كرامات كثيرة، وكان يتكلم على الخاطر، وكلامه مجموع مشهور.
وفيها مات جعيفر الرقاث من ندماء دار الخلافة.
وفي شوال منها توفي القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى القريشي الدمشقي.
وفي ذي الحجة توفي نجم الدين بن محمد بن علي بن القاسم الشهرزوري قاضي الموصل، وولي ابنه حجة الدين عبد القاهر القضاء. ثم دخلت:

.سنة خمس وستين وخمسمائة:

.ذكر حصر الفرنج دمياط:

في هذه السنة، في صفر، نزل الفرنج على مدينة دمياط من الديار المصرية وحصروها، وكان الفرنج بالشام، لما ملك أسد الدين شيركوه مصر، قد خافوه، وأيقنوا بالهلاك، وكاتبوا الفرنج الذين بصقلية والأندلس وغيرهما يستمدونهم ويعرفونهم ما تجدد من ملك الأتراك مصر، وأنهم خائفون على البيت المقدس منهم، فأدخلوا جماعة من القسوس والرهبان يحرضونهم على الحركة، فأمدوهم بالأموال والرجال والسلاح، واتعدوا للنزول على دمياط ظناً منهم أنهم يملكونها، ويتخذونها ظهراً يملكون به الديار المصرية {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً} فإلى أن دخلوا كان أسد الدين قد مات وملك صلاح الدين، فاجتمعوا عليها وحصروها، وضيقوا على من بها.
فأرسل إليها صلاح الدين العساكر في النيل وحشر فيها كل من عنده، وأمدهم بالأموال والسلاح والذخائر، وأرسل إلى نور الدين يشكو ما هم فيه من المخافة، ويقول: إني إن تأخرت عن دمياط ملكها الفرنج، وإن سرت إليها خلفني المصريون في أهلها وأموالها بالشر، وخرجوا عن طاعتي، وساروا في أثري، والفرنج من أمامي، فلا يبقى لنا باقية.
فسير نور الدين العساكر إليه أرسالاً يتلو بعضها بعضاً، ثم سار هو بنفسه إلى بلاد الفرنج الشامية، ونهبها، وأغار عليها واستباحها، فوصلت الغارات إلى ما لم تكن تبلغه قبل، لخل البلاد من مانع.
فلما رأى الفرنج تتابع العساكر إلى مصر، ودخول نور الدين إلى بلادهم ونهبها وتخريبها، رجعوا خائبين لم يظفروا بشيء، ووجدوا بلادهم خراباً، وأهلها بين قتيل وأسير، فكانوا موضع المثل: خرجت النعامة تطلب قرنين فرجعت بلا أذنين. وكانت مدة مقامهم على دمياط خمسين يوماً أخرج فيها صلاح الدين أموالاً لا تحصى. حكي لي أنه قال: ما رأيت أكرم من العاضد أرسل إلي مدة لمقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار مصرية سوى الثياب وغيرها.

.ذكر حصر نور الدين الكرك:

في هذه السنة، في جمادى الآخرة سار نورالدين إلى بلاد الفرنج، فحصر الكرك، وهو امنع المعاقل على طرف البر.
وكان سبب ذلك أن صلاح الدين أرسل إلى نور الدين يطلب أن يرسل إليه والده نجم الدين أيوب، فجهزه نور الدين وسيره، وسير معه عسكراً، واجتمع معه من التجار خلق كثير، وانضاف إليهم من كان له مع صلاح الدين أنس وصحبة، فخاف نور الدين عليهم من الفرنج، فسار في عساكره إلى الكرك، فحصره وضيق عليه ونصب عليه المجانيق، فأتاه الخبر أن الفرنج قد جمعوا له، وساروا إليه، وقد جعلوا في مقدمتهم إليه ابن هنفري وقريب بن الرقيق، وهما فارسا الفرنج في وقتهما، فرحل نور الدين نحو هذين المقدمين ليلقاهما ومن معهما قبل أن يلتحق بهما باقي الفرنج، فلما قاربهما رجعا القهقري واجتمعا بباقي الفرنج.
وسلك نور الدين وسط بلادهم ينهب ويحرق ما على طريقه من القرى إلى أن وصل إلى بلاد الإسلام، فنزل على عشترا، وأقام ينتظر حركة الفرنج ليلقاهم، فلم يبرحوا من مكانهم، فأقام هو حتى أتاه خبر الزلزلة الحادثة فرحل.
وأما نجم الدين أيوب فإنه وصل إلى مصر سالماً هو ومن معه وخرج العاضد الخليفة فالتقاه إكراماً له.

.ذكر غزوة لسرية نورية:

كان شهاب الدين إلياس بن إيلغازي بن أرتك، صاحب قلعة البيرة، قد سار في عسكره، وهو في مائتي فارس، إلى نور الدين وهو بعشترا، فلما وصل إلى قرية اللبوة، وهي من عمل بعلبك، ركب متصيداً، فصادف ثلاثمائة فارس من الفرنج قد ساروا للإغارة على بلاد الإسلام سابع عشر شوال، فوقع بعضهم على بعض، واقتتلوا واشتد القتال، وصبر الفريقان لاسيما المسلمون، فإن ألف فارس لا يصبرون لحملة ثلاثمائة فارس إفرنجية، وكثر القتلى بين الطائفتين، فانهزم الفرنج، وعمهم القتل والأسر، فلم يفلت منهم إلا من لا يعتد به.
وسار شهاب الدين برؤوس القتلى والأسرى إلى نور الدين، فركب نور الدين والعسكر، فلقوهم، فرأى نور الدين في الرؤوس رأس مقدم الإسبتار، صاحب حصن الأكراد، وكان من الشجاعة بمحل كبير، وكان شجاً في حلوق المسلمين.

.ذكر الزلزلة وما فعلته بالشام:

في هذه السنة أيضاً، ثاني عشر شوال، كانت زلازل عظيمة متتابعة هائلة لم ير الناس مثلها، وعمت اكثر البلاد من الشام والجزيرة والموصل والعراق وغيرها من البلاد، وأشدها كان بالشام، فخربت كثيراً من دمشق وبعلبك وحمص وحماة وشيزر وبعرين وحلب وغيرها، وتهدمت أسوارها وقلاعها، وسقطت الدور على أهلها، وهلك منهم ما يخرج عن الحد.
فلما أتاه الخبر سار إلى بعلبك ليعمر ما انهدم من سورها وقلعتها، فلما وصلها أتاه خبر باقي البلاد وخراب أسوارها وقلاعها، وخلوها من أهلها، فجعل ببعلبك من يعمرها ويحميها ويحفظها، وسار إلى حمص ففعل مثل ذلك، ثم إلى حماة ثم إلى بعرين، وكان شديد الحذر على سائر البلاد من الفرنج، ثم أتى مدينة حلب، فرأى فيها من آثار الزلزلة ما ليس بغيرها من البلاد، فإنها كانت قد أتت عليها وبلغ الرعب ممن نجا كل مبلغ، وكانوا لا يقدرون أن يأووا إلى مساكنهم خوفاً من الزلزلة، فأقام بظاهرها، وباشر عمارتها بنفسه، فلم يزل كذلك حتى أحكم أسوار البلاد وجوامعها.
وأما بلاد الفرنج فان الزلازل أيضاً عملت بها كذلك فاشتغلوا بعمارة بلادهم خوفاً من نور الدين عليها، فاشتغل كل منهم بعمارة بلاده خوفاً من الآخر.

.ذكر وفاة قطب الدين مودود بن زنكي وملك ابنه سيف الدين غازي:

في هذه السنة،في ذي الحجة، مات قطب الدين مودود بن زنكي، ابن آقسنقر،صاحب الموصل بالموصل، وكان مرضه حمى حادة، ولما اشتد مرضه أوصى بالملك بعده لأبنه الأكبر عماد الدين زنكي، ثم عدل عنه إلى ابنه الأكبر سيف الدين غازي، وإنما صرف الملك عن ابنه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود لأن القيم بأمور دولته، والمقدم فيها، كان خادماً له يقال له فخر الدين عبد المسيح، وكان يكره عماد الدين لأنه كان طوع عمه نور الدين، لكثرة مقامه عنده، ولأنه زوج ابنته، وكان نور الدين يبغض عبد المسيح، فاتفق فخر الدين وخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي، وهي والدة سيف الدين، على صرف الملك عن عماد الدين إلى سيف الدين، فرحل عماد الدين إلى عمه نور الدين مستنصراً به ليعينه على أخذ الملك لنفسه.
وتوفي قطب الدين وعمره نحو أربعين سنة، وكان ملكه إحدى وعشرين سنة وخمسة اشهر ونصفاً، وكان فخر الدين هو المدبر للأمور والحاكم في الدولة، وكان قطب الدين من أحسن الملوك سيرة وأعفهم عن أموال رعيته، محسناً إليهم، كثير الإنعام عليهم، محبوباً إلى كبيرهم وصغيرهم، عطوفاً على شريفهم ووضيعهم، كريم الأخلاق، حسن الصحبة معهم، فكأن القائل أراد بقوله:
خلق كماء المزن طيب مذاقه ** والروضة الغناء طيب نسيم

كالسيف لكن فيه حلم واسع ** عمن جنى والسيف غير حليم

كالغيث إلا أن وابل جوده ** أبداً وجود الغيث غير مقيم

كالدهر إلا أنه ذو رحمة ** والدهر قاسي القلب غير رحيم

وكان سريع الانفعال للخير، بطيئاً عن الشر، جم المناقب، قليل المعايب، رحمه الله ورضي عنه وعن جميع المسلمين بمنه وكرمه، إنه جواد كريم.

.ذكر حالة ينبغي للملوك أن يحترزوا من مثلها:

حدثني والدي، رحمه الله، قال: كنت أتولى جزيرة ابن عمر، لقطب الدين، كما علمتم، فلما كان قبل موته بيسير أتانا كتاب من الديوان بالموصل يأمرون بمساحة جميع بساتين العقيمة، وهذه العقيمة هي قرية تحاذي الجزيرة بينهما دجلة، ولها بساتين كثيرة بعضها يمسح فيؤخذ منه على كل جريب شيء معلوم، وبعضها عليه خراج، وبعضها مطلق من الجميع.
قال: وكان لي فيها ملك كثير، فكنت أقول: إن المصلحة أن لا يغير على الناس شيئاً، وما أقول هذا لأجل ملكي، فإنني أنا أمسح ملكي، وإنما أريد أن يدوم الدعاء من الناس للدولة، فجاءني كتاب النائب يقول: لا بد من المساحة. قال: فأظهرت الأمر، وكان بها قوم صالحون، لي بهم أنس، وبيننا مودة، فجاءني الناس كلهم، وأولئك معهم، يطلبون المراجعة، فأعلمتهم أنني رجعت وما أجبت إلى ذلك، فجاءني منهم رجلان أعرف صلاحهما، وطلبا مني المعاودة والمخاطبة ثانية، ففعلت، فأصروا على المسح فعرفتهما الحال.
قال: فما مضى إلا عدة أيام، وإذ قد جاءني الرجلان، فلما رايتهما ظننت أنهما جاءا يطلبان المعاودة، فعجبت منهما، وأخذت أعتذر إليهما، فقالا: ما جئنا إليك في هذا، وإنما جئنا نعرفك إن حاجتنا قضيت. قال: فظننت أنهما قد أرسلا إلى الموصل إلى من يشفع لهما. فقلت: من الذي خاطب في هذا بالموصل؟ فقالا: إن حاجتنا قد قضيت من السماء، ولكافة أهل العقيمة.
قال: فظننت أن هذا مما حدثا به نفوسهما، ثم قاما عني، فلم يمض غير عشرة أيام وإذ قد جاءنا كتاب من الموصل يأمرون بإطلاق المساحة والمحبسين والمكوس، ويأمرون بالصدقة، ويقال: إن السلطان، يعني قطب الدين، مريض، يعني على حالة شديدة، ثم بعد يومين أو ثلاثة جاءنا الكتاب بوفاته، فعجبت من قولهما، واعتقدته كرامة لهما، فصار والدي بعد ذلك يكثر إكرامهما واحترامهما ويزورهما.

.ذكر الحرب بين عساكر عبد المؤمن وابن مردنيش:

كان محمد بن سعيد بن مردنيش، ملك شرق الأندلس، قد اتفق هو والفرنج، وامتنع على عبد المؤمن وابنه بعده، فاستفحل أمره، لا سيما بعد وفاة عبد المؤمن، فلما كان هذه السنة جهز إليه يوسف بن عبد المؤمن العساكر الكثيرة مع أخيه عمر بن عبد المؤمن، فجاسوا بلاده وخربوها، وأخذوا مدينتين من بلاده، وأخافوا عساكر جنوده، وأقاموا ببلاده مدة يتنقلون فيها ويجبون الأموال.

.ذكر وفاة صاحب كرمان والخلف بين أولاده:

في هذه السنة توفي الملك طغرل بن قاورت صاحب كرمان، واختلف أولاده بهرام شاه وأرسلان شاه، وهو الأكبر، وجرى بينهما قتال انهزم فيه بهرامشاه ومعه أخ له اسمه تركان شاه، فملك البلاد أرسلان شاه ومضى بهرام شاه إلى خراسان، فدخل على المؤيد صاحب نيسابور واستنجده، فأنجده بعساكر سار بها إلى كرمان، فجرى بين الأخوين حرب ظفر بها بهرام شاه، وهرب أرسلان شاه، فقصد أصفهان مستجيراً بإيلدكز، فأنفذ معه عسكراً، واستنقذوا البلاد من بهرامشاه وسلموها إلى أخيه أرسلان شاه فعاد بهرام شاه إلى نيسابور مستجيراً بالمؤيد صاحبها، فأقام عنده، فاتفق أن أخاه ارسلان شاه مات، فسار إلى كرمان فملكها، وأقام بها بغير منازع.

.ذكرعدة حوادث:

في هذه السنة، كثرت الأذية من عبد الملك بن محمد بن عطاء، وتطرق بلاد حلوان، ونهب وأفسد، وتطرق الحجاج، فأنفذ إليه من بغداد عسكر فنازلوه في قلاعه وضايقوه، ونهبوا أمواله، وأموال أهله، حتى أذعن بالطاعة، ولا يعاود أذى الحجاجولا غيرهم، فعاد العسكر عنه.
وفيها توفي مجد الدين أبو بكر بن الداية، وهو رضيع نور الدين، وكان أعظم الأمراء منزلة عنده، وله أقطاعة حلب وحارم وقلعة جعبر، فلما توفي رد نور الدين ما كان له إلى أخيه شمس الدين علي بن الداية.
وفيها، في شعبان، توفي أحمد ابن صالح بن شافع أبو الفضل الجيلي ببغداد، وهو من مشهوري المحدثين. ثم دخلت:

.سنة ست وستين وخمسمائة:

.ذكر وفاة المستنجد بالله:

في هذه السنة، تاسع ربيع الآخر، توفي المستنجد بالله أبو المظفر يوسف ابن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله، وقد تقدم باقي النسب في غير موضع، وأمه أم ولد، اسمها طاووس، وقيل نرجس، رومية، ومولده مستهل ربيع الآخر سنة عشر وخمسمائة، وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وشهراً وستة أيام، وكان أسمر، تام القامة، طويل اللحية.
وكان سبب موته أنه مرض واشتد مرضه، وكان قد خافه أستاذ الدار عضد الدين أبو الفرج بن رئيس الرؤساء، وقطب الدين قايماز المقتفوي، وهو حينئذ أكبر أمير ببغداد، فلما اشتد مرض الخليفة اتفقا، ووضعا الطبيب على أن يصف له ما يؤذيه، فوصف له دخول الحمام، فامتنع لضعفه، ثم إنه دخل وأغلق الباب عليه فمات.
وهكذا سمعته من غير واحد ممن يعلم الحال، وقيل إن الخليفة كتب إلى وزيره مع طبيبه ابن صفية يأمره بالقبض على أستاذ الدار وقطب الدين وصلبهما، فاجتمع ابن صفية بأستاذ الدار، وأعطاه خط الخليفة، فقال له: تعود وتقول إنني أوصلت الخط إلى الوزير؛ ففعل ذلك، وأحضر أستاذ الدار قطب الدين ويزدن وأخاه تنامش، وعرض الخط عليهم، فاتفقوا على قتل الخليفة، فدخل إليه يزدن وقايماز الحميدي، فحملاه إلى الحمام وهو يستغيث وألقياه، وأغلقا الباب عليه وهو يصيح إلى أن مات، رحمه الله.
وكان وزيره حينئذ أبا جعفر البلدي، وبينه وبين أستاذ الدار عضد الدين عداوة مستحكمة، لأن المستنجد بالله كان يأمره بأشياء تتعلق بهما فيفعلها، فكانا يظنان أنه هو الذي يسعى بهما، فلما مرض المستنجد، وأرجف بموته، ركب الوزير ومعه الأمراء والأجناد وغيرهم بالعدة، فلم يتحقق عنده خبر موته، فأرسل إليه عضد الدين يقول: إن أمير المؤمنين قد خف مابه من مرض، وأقبلت العافية، فخاف الوزير أن يدخل دار الخلافة بالجند، فربما أنكر عليه ذلك، فعاد إلى داره وتفرق الناس عنه، وكان عضد الدين وقطب الدين قد استعدا للهرب لما ركب الوزير خوفاً منه إن دخل الدار أن يأخذهما، فلما عاد أغلق أستاذ الدار أبواب الدار، وأظهروا وفاة المستنجد، وأحضر هو وقطب الدين ابنه أبا محمد الحسن، وبايعاه بالخلافة، ولقباه المستضيئ بأمر الله، وشرطا عليه شروطاً أن يكون عضد الدين وزيراً، وابنه كمال الدين أستاذ الدار، وقطب الدين أمير العسكر، فأجابهم إلى ذلك.
ولم يتولى الخلافة من اسمه الحسن إلا الحسن بن علي بن أبي طالب والمستضيئبأمر الله، واتفقا في الكنية والكرم، فبايعه أهل بيته البيعة الخاصة يوم توفي أبوه، وبايعه الناس في الغد في التاج بيعة عامة، وأظهر من العدل أضعاف ما عمل أبوه، وفرق أموالاً جليلة المقدار.
وعلم الوزير ابن البلدي فسقط في يده وقرع سنه ندماً على ما فرط في عوده حيث لا ينفعه، واتاه من يستدعيه للجلوس للعزاء والبيعة للمستضيئ، فمضى إلى دار الخلافة، فلما دخلها صرف إلى موضع وقتل وقطع قطعاً، وألقي في دجلة، رحمه الله، وأخذ جميع ما في داره، فرأيا فيها خطوط المستنجد بالله يأمره فيها بالقبض عليهما، وخط الوزير قد راجعه في ذلك، وصرفه عنه، فلما وقفا عليهما عرفا براءته مما كانا يظنان فيه، فندما حيث فرطا في قتله.
وكان المستنجد بالله من أحسن الخلفاء سيرة مع الرعية، عادلاً فيهم، كثير الرفق بهم، وأطلق كثيراً من المكوس، ولم يترك بالعراق منها شيئاً، وكان شديداً على أهل العيث والفساد والسعاية بالناس.
بلغني أنه قبض على إنسان كان يسعى بالناس، فأطال حبسه، فشفع فيه بعض أصحابه المختصين بخدمته، وبذل عنه عشرة آلاف دينار، فقال: أنا أعطيك عشرة آلاف دينار وتحضر لي إنساناً آخر مثله لأكف شره عن الناس؛ ولم يطلقه. ورد كثيراً من الأموال على أصحابها، وقبض على القاضي ابن المرخم، وأخذ منه مالاً كثيراً، فأعاده على أصحابه أيضاً، وكان ابن المرخم ظالماً جائراً في أحكامه.